Friday, November 24, 2006

بيت حانون .. على قائمة المجازر

أحد الشهداء من المجزرة


صفحة السوابق الإسرائيلية ما زالت تتجدد وتثقل ولا يكاد الحبر الذي كتبت به تفاصيل مجزرة ما إن يجف, إلا وقد سمعنا عن مجزرة جديدة, فنعيد فتح الملفات التي أصبحت ثقيلة ودسمة لنخط من جديد مجزرة أخرى تضاف إلى قائمة المجازر الإسرائيلية المتواصلة, الوحشية, الهمجية والتي تخلو من صفات الإنسانية بل وتتجرد من الصفات الطبيعية للإنسان الذي يدعي بكل وقاحة حقه في الدفاع عن نفسه.

ها هي المرة التالية التي ترتكب فيها إسرائيل مجزرتها الهمجية, بعد توغل قوات الاحتلال إلى قطاع غزة ومحاصرة الشعب الفلسطيني برا وجوا وبحرا, وتجويعه منذ شهور بل وضرب كل ما يمكن ضربه. ها هي المجزرة الجديدة التي أخذت رقم الثامن والسبعون أو التاسع والسبعون على قائمة المجازر الإسرائيلية, فما عادت الأرقام تهم احد وما عادت تنفع, فإسرائيل ماضية في مجازرها, وربما هي المرة الثمانون في حال إن مجزرة ارتكبت يوما ولم يعلم بها احد, لكن الوثائق تشير إلى أن هذه هي المرة الثامنة والسبعون أو التاسعة والسبعون. تلك المجازر التي امتد على سبع عقود مضت. وحتى قبل قيام الدولة العبرية, فالهمجية والوحشية, هما الصفتان اللتان ميزتا قيام هذه الدولة, فهي لم تقم ولم تستمر إلا على جثث الأبرياء ممن قتلتهم في مجازرها بكل عنف ووحشية.

بيت حانون هي الضحية الأخيرة ضمن هذه القائمة والتي بدأت في المدن والقرى الفلسطينية, فلم يسلم من هذه المجازر احد, فكل بقعة في فلسطين تشهد مجزرة ما على أرضها, من القدس وحيفا وبلد الشيخ والعباسية والخصاص وباب العامود والشيخ بريك وحتى فندق سميراميس في القطمون وحتى بناية السرايا العربية والسرايا القديمة في طولكرم لم تسلم منهم وسعسع وبناية السلام في القدس والحسنية وسوق الرملة وحتى القطار ما بين القاهرة وحيفا لم يسلم من هذه المجازر ودير ياسين وقرية قالونيا وقرية اللجون وقرية ناصر الدير وقرية طبرية وصفد وعين الزيتون وقرية أبو شوشة وقرية بيت دراس والطنطورة وقرية جمزو واللد والمجدل والدوايمة وعيلبون والحولة وقبيلة عرب المواسي مجد الكروم وقرية أم شوف والصفصاف وقرية جيز وقرية شرفات وبيت لحم وبيت جالا وغزة وقبية ونحالين وبئر السبع وقلقيلية وكفر قاسم وخانيونس والبريج ورفح والخليل وصبرا وشاتيلا وجباليا ومؤخرا بيت حانون. هذه القرى والمدن والمناطق لم تسلم من بطش اليهود والمجازر الإسرائيلية بحق أصحاب الأرض, بل وتطاولت على الحق الملكي لهذه الأماكن واحتلتها وطردت مواطنيها الأصليين منها وما زالت تستمر بالمجازر كلما سنحت لها الفرصة.

من الأماكن الأكثر تعرضا للمجازر, وذلك قبل عام 1948 أي قبل قيام الدولة العبرية, منطقة حيفا والمناطق المحيطة بحيفا, حيث جرت هناك 12 مجزرة وكانت حصيلتها ما يزيد عن 500 قتيل إضافة إلى أكثر من ألف جريح, وقد توقفت هذه المجازر في تلك المنطقة عند عام 1967 بعد حرب الأيام الستة. أما في القدس فان الحال لا يسر أيضا, فقد جرت هناك 12 مجزرة أيضا, وكانت الحصيلة تقدر بما يقارب 480 قتيل إضافة إلى مئات الجرحى. في اللد والرملة ويافا والمناطق المحيطة بها, فإنها لم تسلم أيضا من المجازر, حيث أن حصتها كانت ما يقارب 13 مجزرة وحشية وقد استشهد فيها ما يقارب 850 شخص اعزل. من المجازر الأكثر شهرة, مجزرة دير ياسين تلك القرية التي تبعد عن مدينة القدس حوالي ستة كيلو مترات غربا, وقد حدثت المجزرة في التاسع من نيسان عام 1948 حيث قامت مجموعة "الارغون" و"شترين", بمهاجمة القرية والبطش شمالا وجنوبا دون تمييز بين طفل أو امرأة أو شيخ أو مسن أو عازل أو مسلح, ومن ثم قاموا برمي الجثث في بئر القرية, وقد وصل عدد الشهداء فيها إلى 254 شهيدا. ومن المجازر الشهيرة أيضا, مجزرة بيت دراس, تلك المجزرة الوحشية التي إن دلت على شيء فإنما تدل على جبن الجيش الإسرائيلي في التعامل مع الإنسانية والبشرية, ففي الواحد والعشرون من شهر أيار عام 1948 طوق جيش الاحتلال قرية بيت دراس من كل الجوانب وبدأ في قصف السكان دون تمييز, فما كان من أهل القرية إلا أن يخرجوا الأطفال والنساء بعيدا عن الخطر, وفي طريق الخروج فاجئهم جيش الاحتلال وتصدى لهم بالنيران, وكانوا نساء وأطفال وشيوخ, وقد استشهدوا جميعا وقد وصل عددهم إلى 260 شهيدا. لم يسلم احد من هذه المجازر, حتى الذين قصدوا مسجدا في الله وهو مسجد دهمش في الحادي عشر من تموز عام 1948 واختبئوا فيه فلم يسلموا من هذه المجازر حيث دخلت عليهم وحدة كوماندوس وقتلت منهم 176 ليرتفع عدد الذين استشهدوا في تلك المجزرة إلى 426 شهيدا.

من أكثر المجازر وقاحة, مجزرة كفر قاسم حيث فرض حظر التجول في ساعات المساء آنذاك وحدثت تلك المجزرة في التاسع والعشرين من تشرين الأول عام 1956, فعندما عاد السكان الذين كانوا متواجدين خارج القرية, قام جيش الاحتلال بإطلاق النيران على كل من كان يتجول من العامة, وكانت حصيلة هذه المجزرة, أن استشهد 49 شخصا, والأمر الأكثر وقاحة هو أن اللواء العسكري قدم إلى محاكمة عسكرية, وقد كلف بدفع غرامة قدرها قرش واحد وذلك لأنه ارتكب خطئا فنيا. شهدت مدينة خان يونس مجزرة وحشية بلا حدود, حدثت المجزرة في المنطقة الشرقية للمدينة في الثالث من تشرين الثاني عام 1956 حيث دخلها جيش الاحتلال بالسلاح الفتاك وقصفها قصفا حتى أنهى كل ما عنده, وكانت النتيجة أن استشهد ما يقارب 500 شخص اعزل. كما وقد شهدت مدينة خانيونس مجزرة أخرى بعد تسعة أيام في الثاني عشر من تشرين الثاني عام 1956 حيث اتبع جيش الاحتلال الطريقة ذاتها التي اتبعها في المجزرة السابقة وكانت النتيجة هذه المرة 275 شهيد من السكان المدنيين العزل. في فترة حرب الأيام الستة أو من عام 1967, قام جيش الاحتلال بتطويق مدينة القدس وقصفها بالقنابل وتدمير البيوت على سكانها وقد اكنت نتيجة هذه المجزرة 300 شهيد. في حرب لبنان عام 1982 دخل جيش الاحتلال إلى المخيمات الفلسطينية في لبنان وبالتعاون مع الكتائب اللبنانية, استطاع جيش الاحتلال أن يصنع مجزرة من أبشع المجازر على وجه الأرض, فخلال ثلاثة أيام, قام جيش الاحتلال بدخول مخيم صبرا وشاتيلا وقتل كل شيء يتحرك, كان ارييل شارون آنذاك الرأس المدبر لهذه المجزرة والتي استمرت 72 ساعة متواصلة وكانت تلك المدة كافية لان تنهي حياة أكثر من 3500 شهيد اعزل, حيث أثارت تلك المجزرة زوبعة سياسة ودولية كبرى, وقد تنحى شارون من منصبه آنذاك بسببها لكنه سرعان ما عاد إلى حياته السياسية ليواصل مسيرة المجازر البشعة.

القائمة طويلة جدا, وتكاد لا تنتهي, ولكنها قطعا ستنتهي يوما ما. من تلك المجازر مرورا بمجزرة جباليا والتي استشهد فيها 17 مواطنا من سكان مخيم جباليا, نصل إلى مجزرة جديدة تحمل عنوانا جديدا رغم أن الصورة الجغرافية مألوفة لدينا, ألا وهي بيت حانون. وعلى الرغم من أن غزة كانت مسرحا للمجازر الإسرائيلية قبل ذلك إلا أننا سمعنا مؤخرا ببيت حانون. وها هي بيت حانون يدخل اسمها في شهر تشرين الثاني من عام 2006 قائمة المجازر الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني. تلك المجزرة والتي ذهب ضحيتها ما لا يقل عن عشرين شخصا, أثارت الكثير من النقاط والكثير من الأمور التي تفضح ضعف وجبن وحقارة الجيش الإسرائيلي. فبعد أكثر من نصف عام على تطويق قطاع غزة والعمل على إخماد صواريخ القسام, فان حكومة اولمرت فشلت فشلا ذريعا في التعامل مع هذا الواقع, وأصبح اولمرت يبحث عن إبرة في كومة قش. ورغم هذه الفترة الطويلة لم يستطع أن يوقف حتى عشر هذه الصورايخ, وإنما زادت قوتها وتطور صاروخ القسام حتى أصبحنا نسمع عن الجيل الجديد من القسام. فما الذي حدث بالضبط, وما الذي جعل الحكومة الإسرائيلية تذبح أبناء بيت حانون, على الملأ.

لو نظرنا إلى تاريخ المجازر, لرأينا أن أكثرها دموية وعنفا ووحشية, هي المجازر التي حصلت عندما كانت إسرائيل تحارب ضد دولة من دول الجوار, ففي عام 1948 كانت هناك الحرب الأولى والتي يسمونها اليهود بحرب "التحرير" أما نحن فنسميها بحرب النكبة, في تلك الحرب بذل الشباب اليهود قصارى جهدهم من اجل الوصول إلى اكبر عدد من المناطق وذبح أهله وذلك من اجل احتلال اكبر قدر من الأرض إلى حين إعلان دولة اليهود لاحقا, وهذا ما جرى. وإذا نظرنا إلى عام 1956 فإننا نرى تلك المجزرة والتي أتت في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر, وكانت إسرائيل تبحث عن هذه المجازر بحثا دقيقا, لكي تكون شرارة لحرب أخرى, بعد أن تراجعت من العدوان الذي لم يحقق لإسرائيل سوى الحقد المتزايد من العرب والعالم, وقد اعتبرت إسرائيل آنذاك قناعا يحركه الغرب كيفما شاء, بل وقد وصفها الاتحاد السوفيتي آنذاك بأنها تتصرف دون علم بما قد يحل عليها, تلك هي إسرائيل تبحث عن المجازر وتختلق هذه المجازر من اجل أن تمهد الطريق لحرب قادمة. وفي الحرب انتهجت إسرائيل الطريقة ذاتها واستغلت الفرصة لان تطيح بالعزل. أما في عام 1973 فلم أرى أي نوع من المجازر, وهذا دليل واضح على أن العلاقة بين المجازر والحروب هي علاقة طردية بلا شك, فلم اسمع أبدا عن مجزرة حصلت في فترة حرب أكتوبر ولا حتى في أعقاب حرب أكتوبر. في عام 1982 بعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان, انتهزت إسرائيل الفرصة الذهبية ودخلت إلى لبنان, في تلك الأثناء, استطاعت أن تقوم بالمجزرة الجديدة والتي سميت بصبرا وشاتيلا, وحتى تلك الحقبة, فان باقي المجازر الإسرائيلية قبل بيت حانون ومخيم جباليا, فان المجازر كانت تأتي إما من شخص متطرف أو جماعة متطرفة إلى أن أعلنت إسرائيل حربها على القائد الراحل أبو عمار في عام 2002 ومحاصرته في المقاطعة في رام الله, حيث كانت تلك المجزرة أشبه بالمجازر السابقة التي تزامنت مع الحروب.

المجزرة الأخيرة جاءت بعد الفشل الذريع الذي الحق الجيش الإسرائيلي, وبنخبة النخبة من الجيش الإسرائيلي ومعه ثلاثون ألف جندي احتياط مقابل 800 مجاهد من حزب الله. فلو هزم حزب الله لا سمح الله, لدخت إسرائيل إلى البيوت اللبنانية ولذبحت من فيها, لكي تشعل حربا ضروس, لكنها فشلت وتراجعت, واعدت العدة من جديد وأخذت صواريخ القسام كذريعة فاشلة, فصواريخ القسام, هي ظاهرة لازمت المستوطنين منذ سنين, ولكن إسرائيل تعد العدة لحرب آتية, فدخلت إلى بيت حانون, لتدرب جيشها الذي لم يستطع أن يصمد أمام المقاومة الباسلة. فهي واضحة جدا, ولا تحتاج إلى تأويل وتفسير, إسرائيل تقوم بمجزرة كلما اقتربت حرب في المنطقة, لاسيما وان هذه الحرب ستبدؤها إسرائيل بنفسها مع دول في المنطقة, وبالأخص بعد الهزيمة النكراء في بنت جبيل التي صمدت ثلاثين يوما ولم ولن تسقط رغم أن قائد الأركان الإسرائيلي, أعلن أنها سقت منذ اللحظة الأولى في يد الجيش الإسرائيلي. وها هي بيت حانون تضاف إلى قائمة المجازر, وربما إلى خطوة نحو حرب قادمة, والأيام هي التي ستحكم على الواقع.

Friday, November 17, 2006

إحنا بتوع الأتوبيس يا إخوانا

عماد الكبير


من منا لم يتأثر من وحشية هذه الصورة, من منا لم يمتنع عن الأكل لفظاعة هذه الصورة – رغم أن الامتناع عن الأكل ناتج عن الوضع السياسي العام, والفساد المتواصل, وعدم توفر الأكل أصلا –. ومن منا لم يبحث عن المبرر الذي يدفع برجال الأمن إلى فعل مثل هذه الفعلة, والى ارتكاب مثل هذا الإثم. فوحشية الفعلة, جعلتني انتقل من الواقع إلى الخيال, ومن الحقيقة المرة للبحث عن خيال ينسيني هذه الصورة, لكنني فشلت, وعلقت في ذهني, لأنها واقع ملموس وحقيقة لا يجب أن نتناساها مهما حدث.

لقد كانت صرخات الضحية, صرخات مدوية, موجعة حتى أني كدت اكسر شاشة الحاسوب لشدة الألم الذي يشعر به المسكين, فهذه "العملة" أولا وأخيرا, هي وحشية بكل المقاييس ولا يفعلها سوى معتوه أو مجنون أو مريض نفسي, وعلى الأرجح فان الخيار الثالث هو الأكثر ملائمة للوصف الذي ينطبق على الفاعل وعلى الذين كانوا حوله يتمتعون برؤية هذا المنظر, والذي للأسف بدأت ألاحظ انه تحول إلى ظاهرة, وان كانت فظاعة هذه الفعلة لا تحتمل فان فظاعة الفاعل لا توصف.

صراحة لم أكن انوي أن اكتب عن هذه الحادثة, والتي أتمنى أن تكون مجرد حادثة فردية وان يتعاقب المسئول فيها قبل الفاعل. ولكني وجدت ضميري يؤنبني حول ما يمليه علي ضميري ألتدويني, فان هذا الوجه البريء هو أكثر دليل إدانة لضميري يوم الحساب, لأني نذرت قلمي أن يكون منبر حق, ومن هذا المنطلق تشجعت وسط الكثير من العقبات التي فكرت فيها مليا, والتي كانت في نهاية التفكير توصلني إلى طريق مسدود إلا أني رميت بها عرض الحائط, واتخذت قرارا بان اكتب رأيي, حتى ولو كرهه الآخرون, وأنا على يقين بان رأيي سوف يظهر الحياد الموضوعي, رغم أن الحياد في هذه الحالة يدين الفاعل ويستنكر الحادثة بكل المقاييس. هذا الوجه الذي مر في تلك اللحظة ولم يعرف كيف عاشها, جعلني أعيد الحسابات مرة أخرى, وأعيد الشريط من جديد, على أجد فيه أسلوبا يتبعه الإعلام التشويهي في فبركة الصورة المتحركة, لكني لم أرى سوى حقيقة, وأي حقيقة هي التي تسكت عنها الإنسانية. هذا الوجه, أصبح وما زال الهاجس والصورة العامة للضحايا الذين يقعون تحت رحمة رجال الأمن, والذين باتوا يظهرون بصور غريبة عجيبة في الآونة الأخيرة, أما هذه الحالة فلا بد وان تكون لها دوافع وان يكون ورائها سبب هام جدا, ولكننا للأسف الشديد, نجهل هذا الدافع المجنون.

إذا كانت هذه الصرخات ناتجة عن شخص عذب في قسم شرطة, كتب على بابه "الشرطة في خدمة الشعب", أو بما معناه الشرطة في خدمة الشعب, فان ذلك مصيبة, وإذا كانت هذه الصرخات ناتجة عن "ظاهرة" لدى قوى الأمن, فالمصيبة أعظم. لقد سمعت كثيرا عن ما يسمى بسجن أبو غريب, وغوانتنامو وسجون النازيين, حتى أني قرأت ذات يوم أن السجون النازية كانت تخفي الأمور عن الجنود الذي يشرفون على التعذيب, فكانت غرفة التعذيب تتكتم على الأحداث التي بداخلها إلى درجة أن الحارس الذي يقف على باب الغرفة, لا يعرف ما يدور بالداخل. إلا أن النازية, بكل "وحشيتها" التي نسبت إليها لاحقا وبكل الفوضى التي سميت بـ "المحرقة" – والتي اشك فيها أصلا – لم تقمع الأبرياء بهذا الشكل ولم تقمع حتى الأعداء بهذه التصرفات الشاذة. لن أبالغ إن قلت أن عقاب الفاعل هو الإعدام, لان الإعدام لن يمسح العار الذي غمر شرطي الأمن من أعلى رأسه إلى أخمص رجليه, ولان العار لم يركب أي شخص عادي وإنما ركب شرطي امن أؤتمن على حياة أكثر من سبعون مليون مواطن وآلاف السنوات من الحضارة.

كثيرون هم الذين تحدثوا عن هذه الحادثة, ولكن ليس بشكل رسمي تماما, فالحديث كان ضمن إطار المدونات الغير رسمية أو بمعنى اصح, المدونات التي تتبع لأشخاص وليس لمؤسسات. وكثير علقوا على هذه الحادثة, فنشر مقطع الفيديو على كثير من المواقع, إلا أني ومن اللحظة الأولى في كتابة هذا المقال, تجنبت تماما إدراج مقطع الفيديو لأنه باختصار شديد, لا يحتمل. لذلك اكتفيت بوضع صورة للضحية. كثيرون هم الذين كتبوا في الموضوع, معلقين على الموضوع من كل جوانبه, ففي مدونة "وأنا مالي", قام الأخ براء بوصف الحادثة بأنها جرت في "إثم" شرطة وليس قسم شرطة, وقام بوضع الكثير من النقاط التي يسخر بها من الوضع العام ككل. براء لم يبالغ في وصفه بقسم الشرطة بإثم الشرطة, بل هو محق تماما, كما أن التعليقات التي أدلى بها, أضحكتني ضحكة صفراء, كانت تتسم بالبكاء الداخلي والألم عن بعد, والحزن الشديد على الواقع المرير الذي نعيشه. أما وائل عباس صاحب جريدة الوعي المصري, فانه تقيأ بعد مشاهدته, رغم انه حذر القراء من مراجعة أنفسهم قبل مشاهدته, وعلى ما يبدو أن التقيؤ جاء من مصلحة القراء. فصعبة جدا هي الحادثة, والأصعب هو شخصية الفاعل التي ما زلت افتقر إلى تحديد وصف يلائمها ويتطابق معها, بل ويجمع بين هذه الحادثة, وبين البزة التي يرتديها.

لقد علمتنا الحياة أمورا عديدة ومنها السينما, ومن خلال السينما عرفنا كيف يسرد المؤلف والمخرج الوقائع والأحداث التي تؤثر في المشاهدين. ومن بين الأمور التي عرضت منذ سنوات, كان فيلم قد نسيت اسمه يتحدث عن اغتصاب سجناء في إحدى سجون الولايات المتحدة الأمريكية, وفي نهاية الفيلم وبعد مرور عشرون عاما عاد المغتصب به وقتل المغتصب. كان الدافع للمغتصب انه أراد التمتع فحسب, وكان الضحية يتألم, وكان المشاهدون يتألمون معه, إلا انه وضع حدا لمأساته, بان قتل المغتصب, هذا الأمر رأيناه في فيلم عمارة يعقوبيان أو شيء من هذا القبيل. إلا أن الضحية في قسم الشرطة, غلبان. وبالعودة للمغتصب, فانه لا تحليل له سوى انه مريض نفسي, فما التهمة التي قام بها هذا المواطن, حتى ينال هذا العقاب الشنيع, حتى انه في أقصى العقوبات, لا يجوز اغتصابه بهذه الصورة الشنيعة. هذا الضابط أو سمه كما شئت, يفتقر إلى الحس الإنساني الطبيعي, ولقد ذكرني بفيلم قديم لعادل إمام, أحداثه تدور حول أمر مشابه, ولكن المغتصب, أعطي شخصية طاغية, والضحية أعطوا شخصيات مواطنين, كل ذنبهم أنهم مواطنون سقطوا سهوا تحت رحمة احد الضباط المرضى نفسيا وعقليا.

كانت صرخات عادل إمام وهو ينال حصته من العذاب , فكانت جملة عادل إمام التي تقول: إحنا بتوع الأتوبيس يا إخوانا, كانت تعبر عن حالة فريدة حينما وقع عادل إمام ومن معه في أحداث الفيلم تحت رحمة شخص يمتلك السلطة فاستغلها, أما الضحية في فيلمنا, فانه يطلب من الضابط أن لا يستعمل معه هذا الأسلوب "المرة دي" أي انه قد استعمل معه هذا الأسلوب مرة تلو مرة, وهذا الشخص ذاق العذاب مرة تلو مرة. صرخات كررها الزمان في ظرف مكان جديد, ولكن الفرق بين الموضعين مختلف قليلا, فعادل إمام يقوم بتمثيل الدور, أما في قصتنا, فلا تمثيل. وفرق آخر, أن عادل إمام كان يلبس شيئا, أما في فيلمنا الواقعي هذا, فان الضحية لا يلبس بنطالا. في أحداث الفيلم, لاحظنا أن الشخص الذي يتملك السلطة وزمام الأمور, ليس بمنحرف جنسيا, ولم يندفع من ثار شخصي, وإنما كان مريضا نفسيا, وهذا ما رايته في مقطع الفيديو, وبغض النظر عن تهمة الضحية – إذا كان قد فعل شيئا أصلا – فان العقاب الذي ناله, هو عقاب حرم من قبل الأديان كلها, ومن قبل حقوق الإنسان, بل هو عقاب كان الأتراك يستعملوه قديما, وهو العقاب الذي استغل لتلطخ به السياسة التركية آنذاك. أما الفاعل فهو قطعا شخص مريض نفسيا وعقليا, وجسمانيا, وما هو إلا تافه منحط, وأعيد وأقول أني ما زلت افتقر إلى وصف لهذا الشخص. تألمت حقا لما رأيت في مقطع الفيديو, وأنا أوافق الإخوة الذين حذروا من مشاهدته, فهو لا يسر عدو ولا صديق, واعذروني فنحن فيزمن العجائب والغرائب والعصا لمن عصا, على أمل أن يقوم كل الشعب المصري بتكسير عظام الفاعل والمسئول قبل عبد المأمور, إحنا بتوع الأتوبيس يا إخوانا.

Friday, November 10, 2006

عامان على رحيل .. ياسر عرفات

أبو عمار


مر عامان على رحيل القائد الفلسطيني ياسر عرفات, ولم أشعر بهذه الفترة الطويلة نسبيا, فعامان هي فترة غير قصيرة, ففي عامان, تتجدد أمور وتولد أمور وتموت أمور ولكني اشعر أنهما يومان فقط. رحل عرفات قبل عامان وما زلت احتفظ بالجريدة التي اشتريتها بعد يوم من وفاته, كانت الجريدة عبارة عن مأتم في مأتم, وما الغريب, فقائد الشعب الفلسطيني قد مات. كانت صلاة الجمعة التي أتت بعد يوم واحد من وفاته حيث اشتريت الجريدة, كانت صلاة صعبة للغاية. فالجيش الإسرائيلي وضع الحواجز الأمنية على كل المداخل المؤدية للمسجد الأقصى, عمت الفوضى في كل أرجاء القدس الغربية والشرقية, وكانت المخاطر تمر من فوقنا وتحتنا ومن كل زاوية وركن.

كانت الجريدة منبرا من منابر الشعب الواسعة, وكانت كل صفحة تمتاز بكبر الخط العريض, حيث تسابق الشعب الفلسطيني كله ليتقدم بالنعي على صفحات الجرائد, فكانت الجريدة مليئة بالإعلانات السوداء, والرثاء في قائد الأمة الفلسطينية. وكانت صور الرئيس الراحل تملئ الصفحات الأخيرة, وكأنها أرشيف. من بين هذه الصور, صورته من جمال عبد الناصر, ومع كلينتون, وصورة أثارت استعجابي وفضولي, هي صورة مع صدام حسين بجانبه, ومن الجانب الآخر كان يقف حسني مبارك, ولعل الأصدق بين الثلاثة هو عرفات. فصدام مد البساط الأحمر للأمريكان في سنوات حكمه, وفي النهاية اختبأ في جحر, ووصل إليه الأمريكان إلى هذا الجحر وأخرجوه وجعلوه عبرة لمن لا يعتبر. أما مبارك, فطيلة الثلاثة عقود الماضية, أوهم شعبه انه في طريق الإصلاح, وما نجده اليوم من ثلاثة وسبعين ألف قضية فساد في السنة هو دليل على إصلاح مبارك, والجوع والمجاعة والبطالة وأخيرا, قمع الحريات حتى الكلام الذي لا يرضى عنه مبارك ومن حوله. لكن عرفات ذهب ضحية, وقدم للشعب الفلسطيني ما لم يستطع العرب أن يقدموا ابدآ, فلولا عرفات لما اعترف احد بحقوق للفلسطينيين, وغير ذلك يعتبر هراء.

كانت الفوضى تعم القدس, في يوم الثاني عشر من نوفمبر قبل عامان, ذهبت إلى المسجد الأقصى لأصلى صلاة الجمعة اليتيمة والموافقة ليوم التاسع والعشرون من رمضان, لكن الجنود منعوني, قاموا بفحص هويتي وعندما رأوني لم ابلغ سن الخامسة والأربعون, منعوني من الدخول, كنت أنا وأبي واحد أعمامي, سمحوا لأبي بالدخول أما أنا وعمي فلا, ولكن عمي كان ذكيا حينها فاستطاع أن يقنع الجندي الإسرائيلي بأنه يبلغ الخامسة والأربعون, وقد صدقه الجندي وذلك للتجاعيد على وجه عمي وطريقة عرض الكذبة, أما أنا فصليت مع آلاف وآلاف مثلي في الشارع الخارجي, وكنت قد أعطيت أبي الزكاة ليودعها عند لجنة زكاة القدس وذلك لأني لا أستطيع الدخول.

بعد الصلاة رأيت مناوشات بين المصلين والجيش الإسرائيلي, أدركت أني على وشك أن أكون في خطر, وما أن أردت الانصراف حتى وقف أمامي صحفي أجنبي يسألني إن كنت اعرف أن أتكلم الإنجليزية, ووافقت أن يجري معي حوار حول ما يحدث في القدس, فقلت إن الجيش الإسرائيلي أوقفنا مثل الحيوانات وهذا يدل على همجية سياسة إسرائيل وهمجية الحكومة الإسرائيلية وان هذا ضد حريات المواطن في أداء عباداته بحرية, وقد سألني عن عرفات وهل هناك تأثير لموت عرفات على ما يحدث, فقلت ربما ولكن هذه الجمعة اليتيمة وهي من أهم الأيام في أواخر رمضان, وما أن أنهيت كلامي حتى رأيت خلفي ألف شخص وشخص, يهتفون بحياة عرفات ويرمزون بالسبابة والوسطى علامة الانتصار, كما كان يفعلها أبو عمار.

عامان مرا .. ونشر هذا الحوار, على قناة أجنبية اسمها أي تي في نيوز. عامان مرا كالبراق, وما زلت اذكر تفاصيل ذلك اليوم المشحون. والصلاة على الشارع, حتى مصور الجزيرة صلى بجانبنا وصورنا أيضا, عم الحداد أربعون يوما, ولم تبث إذاعات الراديو الفلسطينية العامة والخاصة سوى تلاوة من الذكر الحكيم مدة أربعون يوما, اعلم أن هذا لن يعيد عرفات ولكنه يطمئن القلوب. رحل أبو عمار, وبكى آلاف وملايين عليه, وكانت فئات من المتخاذلين, قد انتهزوا الفرصة لإخراج حقدهم على شخص مات وهو في معطف لنم يغيره, وحطة لم ينزلها عن رأسه, وعمت الفوضى كل فلسطين, وما زال السبب وراء وفاة الرجل الحديد غامض. ولو أردت الكتابة عن موت عرفات وإبعاد ذلك على الشارع الإسرائيلي والعربي بشكل عام في يوم الوفاة وما بعدها بيومين حتى عيد الفطر الذي ملأته الأحزان, لاحتجت إلى مئات الصفحات, ولكني الخص كل ما قيل عنه بجملة واحدة : العالم يحزن ويودع .. أبو عمار

Friday, November 03, 2006

قناص بغداد .. يرعب الأمريكان

إحدى ضحايا القناص


لحظة بلحظة, يمر الجندي الامريكي من الاحياء الفقيرة في العراق, للوصول الى اهدافه وتدميرها. ولكنه يذهل ويخذل ويصاب بجنون الوهم عندما يتلقى رصاصة طائشة من مسلح مجهول أصبح يسمى بقناص بغداد او قناص العراق. هذه الظاهرة الجديدة أتت اكلها واصبحت هاجسا لدى الجيش الامريكي, والجيوش التي تقف من وراء الجيش الامريكي, فهذه الظاهرة صنعت صورة واضحة لوضع الجندي الامريكي او كما يسمونه "الدولي".هذه الظاهرة اعطته صورة واضحة عن وضعه وعن المخاطر التي تحدق به طوال الوقت.

الجيش الامريكي في العراق والذي يحمل ميزة الاحتلال, يعيش حرب العصابات, فكل ما يشغل بالهم هو الرصاصة القادمة, فيخططون لها ويدبرون لها ويدفعون الملايين من اجل معرفة مصير الرصاصة التالية واين ستسقر. هذا الخوف والهلع حصل اثر ظاهرة قناص بغداد, وهذه الظاهرة ما هي الا امتداد لظاهرة تفجير المدرعات الامريكية والتواجد العسكري الامريكي. وكله في نهاية الامر يصب في خانة هدف واحد وهو دحر الاحتلال الامريكي, من العراق. ذاك الاحتلال الذي ولد بصورة غير شرعية, ولم يات بنتيجة واحدة مما طمح اليه مصممه جورج بوش. وها هو قناص العراق يثبت لبوش ان العراق ما يزال ينبض بالروح القتالية.

وسواء كانت هذه الظاهرة جديدة ام قديمة, فانها تدفع الامريكان الى اتخاذ اقصى درجات الحذر. فهذه الظاهرة منتشرة في كل ارجاء العراق والمشكلة الصعبة فيها ان الاجهزة المستخدمة ليست الا قناصة ومعها قناص, اما القناصة فيمكن تركيبها في دقائق معدودة وهي تنتقل في حقيبة مثل حقيبة جيمس بوند وهذا هو الامر الصعب حيث ان الحجم الصغير نسبيا الى سلاح يصيب الهدف بدقة, هي مشكلة عويصة أوي أوي. وهذه بحد ذاتها الاستراتيجية التي يسير عليها القناص في العراق.

Wednesday, November 01, 2006

ثورة الإعلام العربي, الجزيرة في عامها العاشر


* على قمة الإعلام العربي الأكثر حرية واستقلالية ومصداقية وموضوعية واتقانا, تقبع مؤسسة الجزيرة الإعلامية وتحتفل بذكرى العاشرة لانطلاقتها. في البدء كانت قناة الجزيرة القناة الإخبارية الأولى من نوعها في العالم العربي, فقد كان الإعلام العربي يفتقر إلى قناة مثل الجزيرة. فالمشاهد العربي مل وكره الإعلام المتكرر, والحياة الروتينية القاتلة التي جعلت من التلفاز منبرا لجلالة الملك, وفخامة الزعيم, ودولة الرئيس, وحاشية الملك وخدم الملك, وما ملكت أيمان الملك. المواطن العربي مل هذا الروتين وأصبح يتجه إلى قنوات أجنبية توفر له مشاهدة الحقيقة كما هي ولا تتبع لأي جهة معينة, فبدأ المشاهد العربي يبحث عن الإعلام المحايد والحر, ولكن العالم العربي كان يفتقر إلى هذا الإعلام.

* في منتصف التسعينيات من القرن الماضي, كثرت ظاهرة الأقمار الصناعية والقنوات الفضائية في العالم العربي, وأصبحنا نشاهد أكثر من عشرون قناة عربية متنوعة, منها التابع للحكومات ومنها الدعائية التابعة لشبكات قنوات أجنبية وأخرى. كانت هذه إحدى نقاط الذروة في عالم الأقمار الصناعية لدى العالم العربي, ومن ثم تطور المشاهد العربي ليشهد نقلة نوعية إلى أن وصل به الحال لمتابعة أكثر من 150 قناة فضائية عربية ناهيك عن القنوات الأجنبية التي تغطي منطقة العالم العربي كله. الجزيرة ومع أول انطلاقتها عام 1996, لاقت إقبالا من كل مشاهد كان ينتظر أن يرى قناة عربية تبث من العالم العربي مثل ألبي بي سي والسي إن إن, إلا أن هذا الحلم تحقق فقط في أول نشرة إخبارية قدمها جمال ريان على قناة الجزيرة والتي كانت الأولى من نوعها في العالم العربي.

* رأى المشاهد العربي في الجزيرة, النقلة النوعية التي كان ينتظرها, وكانت الجزيرة فكرة عظيمة وخطوة نحو النجاح الذي شهدناه لاحقا من تغطيات حروب وقضايا مهمة وشائكة والاهم من ذلك هو إنقاذ المشاهد العربي من الروتين القاتل ومن الإعلام الكاتم للحقيقة. ففكرة الجزيرة تنوعت بتنوع ألوان الطيف, وأصبحنا نرى في الجزيرة النافذة الأكثر مصداقية للمشاهد العربي ليرى هموم المواطن العربي وليسمع الصوت العربي الذي ينادى بالحريات. وبهذا, أصبحت الجزيرة هي القشة التي تعلق عليها المشاهد العربي لمعرفة الحقيقة دون انحياز. وشيئا فشيئا, تحولت هذه القشة من قشة إلى زورق ومن ثم إلى أسطول من السفن التي تبحر في بحر الإعلام العربي الذي كان فيه المشاهد العربي إما جالسا على الشاطئ وإما غارقا فيه لا يعرف ماذا يدور على سطح هذا البحر, إلى أن أتت الجزيرة لتصحب المشاهد العربي على متن سفنها ولتبحر معه إلى ما يريد أن يعرف وما كان محظورا عليه أن يعرف.

* لطالما اعتبرت قناة الجزيرة في مسيرتها المكللة بالنجاح, قناة تقف من وراءها أياد خفية. ولطالما اعتبرت الجزيرة من الوسائل المهمة لدى الحكومة القطرية في توجيه الرأي العام العربي من الشرق للغرب ومن الشمال للجنوب, ومن معارض للتصرفات في الحكومة القطرية إلى منحاز معها. الجزيرة هوجمت عدة مرات من مختلف رجال السياسة ومن مختلف الدول العربية والغربية, بل واتهمت عدة مرات أنها تعمل لحساب المخابرات الأمريكية والإسرائيلية, بل واتهمت أنها وراء معاناة الشعب العربي والتخلف الذي لحق بالشعب العربي, وكانت ذريعة المدعين هذه الادعاءات أن الجزيرة لا تعرض مشاكل وقضايا الدولة القطرية. لكن الجزيرة حرصت على تقديم كل خبر يستحق النشر سواء كان ايجابيا أو سلبيا, وليس في العالم الخارجي فحسب بل في قطر بعينها, فالجزيرة طرحت هذا الموضوع عدة مرات, وفي لقاءات عدة كان المسئولون عن قناة الجزيرة يوضحون أن الدولة القطرية صغيرة المساحة ومشاكلها تأتي بحجم مساحتها أي أن قطر وعلى الرغم من أنها تحتضن الجزيرة إلا أن الجزيرة كانت على استعداد وقبل أي احد بنقل أي خبر وبنشر أي خبر أو قضية تنطلق من قطر. وقد حرصت الجزيرة على هذا الأساس, فمن خلال العشر أعوام الماضية بثت الجزيرة أخبارا عدة تتعلق بالسياسة الداخلية والخارجية لدولة قطر, وكانت تبث في كل مناسبة ومناسبة أمورا تعد من خصوصيات دولة قطر, ولكن المعارضين للجزيرة استفحلوا في اعتراضاتهم أكثر وأكثر.

* من الحكمة الواعظة والإدارة الناجحة, أن جعل مؤسسي قناة الجزيرة وشبكة الجزيرة بشكل عام, القيادة في موظفي الجزيرة, فبالرغم من أن الجزيرة انطلقت تحت رعاية وتمويل أمير قطر, إلا أن الكادر المهني والإداري في القناة لا يتبع لأي شخص من العائلة الحاكمة في قطر, وهذا بحد ذاته يعد ذروة الحريات الإعلامية. ففي مسيرة الجزيرة خلال الأعوام العشرة الأخيرة كانت سياسة القناة أن تحرير الأخبار لا بد وان يكون في أعلى مستوى المحايدة, ومن هذا المنطلق كان ولا بد أن يتم ترك الموظفين في قناة الجزيرة يعملون بكل حرية كما هم منذ عشر سنوات. ومن اجل ذلك تم تعيين وضاح خنفر مديرا عاما لقناة الجزيرة ومن ثم مديرا عاما لشبكة الجزيرة في قطر, وأصبحت بذلك الجزيرة حرة بلا حدود, وان لم تكن لها حدود من قبل ولكن إعطاء الإدارة لمراسل يعمل في الجزيرة فهو أمر عظيم في حرية الإعلام. ولعل هذا لا نجده حتى في الإعلام الغربي, فنجد أن المدير العام تتماشى آراءه مع آراء مؤسسته الإعلامية أو العكس صحيح, وهذا نابع من التأثير على مجريات العمل في تلك المؤسسات. ولكن الجزيرة كانت تنتهج طريقا آخر, فبالرغم من أن الجزيرة في سنواتها الأولى كانت الإدارة تتبع للعائلة الحاكمة في قطر, إلا أن السياسة العامة للجزيرة كانت مستقلة وحرة. ومع تولي وضاح خنفر مسئوليته الجديدة, فلم تتغير الجزيرة كثيرا وإنما زادت ثقتها بنفسها, تلك الثقة التي منحتها إياها دولة قطر وأمير قطر.

* في أول تغطية هامة للجزيرة, كانت في عامها الثاني وذلك خلال القصف الأمريكي للعراق عام 1998, كانت نقلة نوعية بحد ذاتها, وأصبح المشاهد العربي يرى القصف ساعة بساعة ولحظة بلحظة, ولم يعد أي حاجز بين المشاهد والأحداث الدامية التي تحصل في العراق آنذاك. هذا الجو الإعلامي الحر والمليء بالتقارير اليومية عن همجية الهجوم والذي كان من أساسه تغطية لفضائح بيل كلينتون مع مونيكا, استشاط غضب الولايات المتحدة الأمريكية جدا, وأصبحت الجزيرة من ضمن قائمة الأعداء الغير مباشرين للولايات المتحدة الأمريكية, حيث استقطبت الجزيرة انتباه الملايين في شتى أنحاء العالم.

* في لقاءات مع شخصيات مهمة دوليا وعربيا, من رؤساء ومسئولين وحتى إرهابيين مثل بن لادن, كانت الجزيرة هي السباقة. فعلى المستوى العربي والإسلامي, كانت الجزيرة وما زالت هي العنوان الأكثر اهتماما في عيون شخصيات عدة. ومع مرور الوقت, تأكدت الشخصيات المهمة التي ظهرت على شاشة الجزيرة, بان الجزيرة مشروع إعلامي حر بحت, ومن هذا المنطلق أصبحت الجزيرة عنوان المنبر الحر المفتوح على كل العالم العربي والدولي. وأصبحت وكالات الإنباء تتجه إلى نقل الشرائط المصورة للقاءات وبيانات وخطب وأخبار شخصيات كثيرة مهمة ومثيرة للجدل حيث كانت الجزيرة هي السباقة في معرفة أخبارهم وتطلعاتهم. وباتوا هم يبحثون عن الجزيرة قبل غيرها. كل هذه الأمور أزعجت السلطات الأمريكية الاستخباراتية, بل والعربية في كثير من الأوقات, وأصبحت الجزيرة في عيون الاستخبارات الأمريكية وغير الأمريكية – ممن لهم مصالح في الشرق الأوسط والعالم العربي – محط أنظار الجميع.

* في التغطيات الخطيرة جدا كالحرب على أفغانستان بعد التغطية المتميزة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر, كانت الجزيرة تحافظ على اتزان تام, وعلى حيادية واضحة وتقدم التقارير اليومية مما جعل المشاهد لقناة الجزيرة يشعر انه يعيش الحرب لحظة بلحظة. فعندما انطلقت أول رصاصة أمريكية كانت كاميرا الجزيرة هي السباقة والأولى في تصوير وقائع الحرب, وهمجية العدوان الأمريكي, ومعاناة الشعب الأفغاني. ومن هنا أثبتت الجزيرة أن تكميم الأفواه الذي يمارس ضدها هو ضريبة لنجاح وانفراد الجزيرة بتقديم الأخبار الموضوعية والمصداقية. فخلال الحرب على أفغانستان اعتقل مصور لقناة الجزيرة وهو سامي الحاج, واخذ إلى معتقل غوانتنامو المشهور, وهو لم يفعل شيئا سوى أن حمل كاميرا الجزيرة وحاول جاهدا أن ينقل معاناة الشعب الأفغاني, ومنذ الحرب على أفغانستان إلى احتفال الجزيرة بعامها العاشر ما زال سامي الحاج في معتقل غوانتنامو دون أن يقترف أي ذنب.

* أصبحت الجزيرة محط أنظار للجميع, وأصبحت شوكة في حلق الإمبريالية والاستعمار, فالتقارير التي تشير إلى معاناة الشعوب والقتل الجماعي والشهداء انطبق نوعا ما على الجزيرة في الحرب الأمريكية على العراق عام 2003. فما أن بدأت الحرب حتى واجهت الجزيرة موجة من التحريضات من كلى الجانبين, فالأمريكان كانوا يتهمون الجزيرة بأنها عميلة للنظام العراقي, ووزير الإعلام العراقي لطالما انتقد الجزيرة في هذه الحرب بزعمه أن الجزيرة تحرض ضد النظام وتبث أخبارا كاذبة, وقد حذر مراسلي الجزيرة عدة مرات. ومع دخول الجيش الأمريكي إلى بغداد, وبالتحديد على أبواب بغداد, وقفت دبابة أمريكية ووجهت فوهتها إلى مكان المراسلين التابعين لقناة الجزيرة, وأطلق جندي أمريكي من رشاش مدفعي طلقات توجهت إلى مكان مراسلي الجزيرة فاستشهد الصحفي طارق أيوب. لم يكن خطءا من الجندي الأمريكي تمييز أن هناك مراسلون ولكنه حدد مراسلي الجزيرة وقتل احدهم. وبهذا أصابت الولايات المتحدة احد الصحفيين المميزين في هذه الحرب ولكن الجزيرة استمرت في التغطية وعلم العالم جميعه همجية الولايات المتحدة الأمريكية في معاملة الحرية الإعلامية.

* في مطلع عام 2006, تناقلت وكالات الأنباء خبرا أن طوني بلير, رئيس وزراء بريطانيا, تحدث هو وجورج بوش الابن حول قناة الجزيرة وإزعاج قناة الجزيرة. فكان الخبر في الصحف يقول أن الاثنان اتفقا على ضرب قناة الجزيرة, وكان المقصود هو ضرب مراكز الجزيرة في الدول المشتعلة بالحروب التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ضد دول ولم تنجح فيها بل غرقت في وحل هو أكثر صعوبة من وحل فيتنام. جاء هذا على لسان احد المقربين ممن سمع هذا الكلام, ولكن الأمور كانت كما هي, زائفة, مجحفة, همجية من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا. وهذا دليل على أن قناة الجزيرة أخرجت ما في جعبتها وأظهرت الحقيقة بينما كانت الإمبريالية ومعها الاستعمار في مواجهة الجزيرة ولكنهم فشلوا لان الجزيرة هي التي كانت على حق, بينما كان معرضي الجزيرة على خطأ. الجزيرة قدمت تضحيات حتى شهداء, وكان كل هذا من اجل الحرية الإعلامية والمصداقية والموضوعية ومن اجل الرأي والرأي الآخر.

* في شعارها الرأي والرأي الآخر, حافظت الجزيرة على إبقاء نفسها على أعلى مستويات الإتقان في جعل هذا الشعار رمزا للجزيرة. وأصبح هذا الرمز يلازمها في كل أخبارها وتقاريرها بل وحتى برامجها الحوارية الساخنة وهي التي بسببها أغلقت سفارات دول عربية في الدوحة وسحب السفراء منها. وهوجمت الجزيرة بسبب هذه البرامج من جهات عدة, عربية وغربية وحتى من إسرائيل, فلم يكن في صف الجزيرة سوى عنصران لا ثالث لهما, أولهم المشاهد الباحث عن الحقيقة والموضوعية والمصداقية, والعنصر الثاني هو المحايدة في جميع القضايا. أما عن التهم التي وجت وتوجه باستمرار حول الجزيرة ومصر الجزيرة والأيادي الخفية للجزيرة والفوضى الإعلامية التحريضية ضد الجزيرة لم تكن سوى زوبعة في فنجان. فقد حافظت الجزيرة على قوة العزم والإرادة في مسيرتها التي امتدت عشر سنوات وأصبحت مؤسسة إعلامية, تضم القنوات المميزة والأولى من نوعها في العالم العربي. كما وقد أثبتت الجزيرة شعارها الرأي والرأي الآخر في موقعها على الانترنت, والذي يعد اكبر المواقع العربية تصفحا وزيارة, ويعد مكتبة وأرشيفا ضخما لما يبث على الجزيرة ولما يهم المواطن العربي والدولي أيضا.

* في مسيرتها خلال العشر سنوات السابقة, بدأت جهات عديدة في العالم العربي, بتجنيد الأموال والجهود لإطلاق قنوات إخبارية عربية جديدة تشبه بشكلها قناة الجزيرة. لكن قناة الجزيرة كانت وما زالت هي الأولى والأقوى, فبالرغم من أن الجزيرة ابتدأت في عام 1996 بميزانية معينة إلا أنها استطاعت أن تجد لنفسها مكانا على الساحة الدولية وان تنتشر في كل بين عربي من المحيط إلى الخليج. على غرار ذلك اتجهت بعض الجهات من العالم العربي لتؤسس محطات كالجزيرة, وكانت الميزانية ضخمة جدا وتفوق ميزانية الجزيرة ثلاثة أضعاف على الأقل, إلا أن الجوهر الداخلي لهذه القنوات لم يستطع أن يستقطب المشاهد العربي ولم يستطع أن يجذب المشاهد العربي كما فعلت الجزيرة فهو إما منحاز لجهة ما وإما غير صادق وغير مقنع بما فيه الكفاية. وفضلا عن السنوات التي تربى فيها المشاهد العربي على المصداقية والموضوعية في قناة الجزيرة, فانه افتقر في القنوات الأخرى إلى الحياد في كثير من المواضيع والقضايا التي تهمه, لذلك بقيت الجزيرة هي الخيار الأول للمشاهد العربي والدولي أيضا في البحث عن الموضوعية والمصداقية في الأخبار التي تهمه والقضايا التي تعنيه.

* خلال العشر سنوات الماضية حرصت الجزيرة أن تضع بين أهدافها حرية التعبير, الرأي والرأي الآخر, ومن هذا المنطلق بحثت الجزيرة عن مكانها في عقول المشاهدين واستطاعت أن تخترق كل بيت عربي. وتحولت الجزيرة من وسيلة للإعلام الحر النزيه إلى هدف وقدوة لنزاهته ومصداقيته وموضوعيته اللانهائية, وأصبح التقليد لقناة الجزيرة أمرا لا بد منه, ولكن الأصل هو الأصل. ومن خلال هذه التجارب فقد كانت الجزيرة على معرفة تامة أنها أصبحت هدفا يقتدى به ومن هذا المنطلق, أسست الجزيرة مركز التدريب والتطوير الإعلامي, وهو المركز الأكثر قوة من نوعه في العالم العربي حيث أن هذا المركز يعد ويجهز الإعلاميين الجدد لدخول عالم الإعلام. ومن منطلق أن الجزيرة أصبحت الهدف للإعلام العربي الحر, فقد نظمت الجزيرة مهرجان توزيع جوائز ميثاق الشرف المهني, ويعد الحاصل على هذه الجائزة, فائزا كبيرا ومتقدما في مجال الصحافة والإعلام. الجزيرة أصبحت هدفا يدور في فلكها كل مقياس للصحافة النظيفة والإعلام الحر النزيه, فهي المؤسسة العربية الأولى من نوعها التي تزعج الغرب, وترضي مشاهديها في آن واحد. ورغم التكتيم والتشويه اللذان تمارسهم الولايات المتحدة الأمريكية ومن يدور في فلكها, إلا أن الجزيرة تحفظ على دورها في الساحة الإعلامية, بل وتجذب إليها المشاهدين من أقصى بقاع الأرض.

* الجزيرة إذا, مشروع إعلامي هادف ومشروع صحفي شريف, عناصره تجتمع في مجمل شعاراته, وأهمها الرأي والرأي الآخر. الجزيرة انطلقت منذ عشرة أعوام, وانطلقت معها أول شرارة أضاءت للشارع العربي والمشاهد العربي والبيت العربي النور الإعلامي الحر البعيد عن أي إغراءات سياسية أو تداخلات خارجية. بل الجزيرة مشروع متكامل متوحد بحد ذاته. فقد اتبع نهجها آخرون ومشوا في طريق الحرية الإعلامية والذي أصبح منذ عقد من الزمان يسمى بالجزيرة. فالجزيرة أصبحت مصطلحا لسرعة الخبر ومصداقية الخبر وموضوعية القضايا التي تهم المشاهد العربي أينما كان من المحيط إلى الخليج والتي تهم المشاهد حول العالم أيضا. الجزيرة ثورة إعلامية أتت أكلها, وتحملت الكثير من المتاعب والأزمات, وقدمت الشهداء والتضحيات ولاقت الشعوب تلتف حولها وتحتضنها, لأنها قريبة من الشعوب والشعوب قريبة منها, تطرح همومهم وتناقش مشاكلهم وتعطيهم حقهم إعلاميا وأكثر دون تحيز لعوامل أو جهات ودون متاجرة في مصالح احد أو أخبار احد. عشر سنوات من الريادة تحت شعار الرأي والرأي الآخر, ومسيرة الثورة الحرة مستمرة, فكل عام وحرية الرأي بخير.